سبب الوسواس القهري عند النساء: من أين يبدأ؟

١. الطفولة: متى تبدأ بذور سبب الوسواس القهري؟
الحساسية المفرطة والانضباط الزائد: شخصيات تتكوّن مبكرًا
في سنوات الطفولة الأولى، تبدأ بعض السمات الشخصية بالظهور، ومنها الحساسية الزائدة تجاه الخطأ أو الخوف المبالغ فيه من الفوضى أو الاتساخ. هذا النوع من الأطفال غالبًا ما يظهر ميلًا للترتيب والانضباط من تلقاء نفسه، ويشعر بالانزعاج من أي تغيير غير متوقع. هذه السلوكيات، رغم أنها تبدو إيجابية في ظاهرها، إلا أنها قد تخفي تحتها قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. وفي بعض الحالات، يمكن أن تكون هذه البدايات الأولية لنمط تفكير وسلوكي يُمهّد لاحقًا لظهور سبب الوسواس القهري . الطفلة التي تخشى أن تنسى شيئًا، أو تتوتر إذا لم تضع ألعابها في مكانها الصحيح، ليست “منظمة” فقط، بل ربما تحاول السيطرة على محيطها لتخفيف شعور دفين بعدم الاستقرار أو الخوف من الوقوع في الخطأ
القواعد الصارمة والتربية المبالغ بها: متى تتحوّل النية الطيبة إلى سبب الوسواس القهري؟
الطفل المتلقي لتربية صارمة، حيث يُكافأ فقط عند الكمال ويُنتقد بشدة عند التقصير، يطور داخل عقله فكرة أن الحب مرتبط بالأداء. فإذا نسيت شيئًا، أو ارتكبت خطأً، فهي “سيئة” أو “غير كافية”. هذه الفكرة تبدأ مبكرًا وقد لا يُصرّح بها، لكنها تنعكس في سلوكها: تكرار الأسئلة، الخوف من التجربة، أو الانعزال. بعض الأمهات دون قصد يعززن هذه الفكرة عبر المقارنة مع إخوة أو أطفال آخرين، أو بإبداء المديح فقط عند الأداء العالي، مما يغذي التوتر الداخلي ويُمهّد لما قد يتحوّل لاحقًا إلى سبب الوسواس القهري عند بعض الأطفال، خصوصًا أولئك الأكثر حساسية وانضباطًا بطبعهم
العلامات التحذيرية التي لا يجب تجاهلها: حين تظهر بدايات سبب الوسواس القهري مبكرًا
في هذه المرحلة، هناك إشارات تستحق الانتباه المبكر: طفلة تتوتر بشدة عند تغيير مكان أغراضها، تكرر السؤال عن نفس الشيء رغم الإجابة، أو تخشى المحاولة خشية الفشل. كما قد تظهر بوادر وسواسية على شكل تكرار حركات معينة (مثل عدّ الأشياء، أو غسل اليدين كثيرًا)، أو توتر شديد عند عدم إتمام روتين معين. هذه المؤشرات لا تعني وجود اضطراب مؤكد، لكنها علامات تدفعنا للوقوف، والتفكير بطريقة التربية، لأنها قد تكون جزءًا من سبب الوسواس القهري لاحقًا إذا لم تُواجه بالاحتواء والتوجيه الهادئ، بدلًا من الضغط والمحاسبة

٢. المراهقة: عندما يكبر الخوف في صمت
البحث عن الذات في ظل القلق الداخلي
المراهقة هي المرحلة التي تبدأ فيها الفتاة بالتفكير المستقل، وبناء صورتها عن نفسها، وفيها يتضخم أي قلق غير معالج من الطفولة. الفتاة التي كانت تتردد في اتخاذ القرارات، أو تتوتر من التغيير، تصبح الآن أكثر وعيًا بمخاوفها، لكنها لا تعرف كيف تعبّر عنها. بعض السلوكيات تصبح أكثر تعقيدًا: مراجعة الواجب مرارًا قبل تسليمه، أو رفض الخروج إلا إذا كانت “مرتبة تمامًا”. إنها لا تسعى فقط للكمال، بل تخاف من الخطأ لأنه يرتبط داخليًا بقيمتها
ضغوط داخلية وخارجية تؤجج الوسواس
الضغوط في هذه المرحلة متعددة: من الجسم الذي يتغير، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى التوقعات الأكاديمية. ومع غياب مساحة آمنة للتعبير، قد تلجأ الفتاة إلى تصرفات وسواسية تُشعرها بالتحكم: مثل التحقق من قفل الباب عدة مرات، أو تكرار الصلاة خوفًا من “عدم القبول”. بعض الأمهات يعتقدن أن هذه السلوكيات “تديّن” أو “حرص”، لكن خلفها غالبًا شعور عميق بعدم اليقين والخوف من الخطأ
إشارات مبكرة لا يجب إسكاتها
في المراهقة، يظهر الوسواس بطرق خفية: تفكير زائد في تفاصيل لا تستحق، تأخر مزمن في اتخاذ القرار، أو مقاومة غير مفهومة لأي تغيير في الروتين. كما قد تظهر أفكار متسلطة (مثل أفكار ذنب ديني، أو هواجس متكررة بشأن الشكل والمظهر). تجاهل هذه الإشارات أو التهكم عليها قد يعمّق الجرح، بينما الاعتراف بها وتقديم الدعم يساعد الفتاة على فهم نفسها بدلًا من جلدها

٣. الرشد والمسؤوليات: حين يتحوّل الوسواس إلى أسلوب حياة
الكمالية كقناع: الأداء المثالي لإخفاء القلق
عند دخول سن الرشد، تبدأ المرأة بتولّي مسؤوليات كبرى: العمل، الزواج، الأمومة. هذه الأدوار تتطلب توازنًا نفسيًا، لكن بالنسبة للمرأة التي نشأت على الخوف من الخطأ، تصبح المسؤوليات ساحات قلق لا تنتهي. قد تبدو “منظمة جدًا”، لكنها في الحقيقة مرهقة عقليًا من الداخل. تسعى للكمال ليس بدافع الإبداع، بل لتجنّب الانتقاد، أو لتهدئة الصوت الداخلي القاسي الذي يكرر: “لم يكن ذلك كافيًا
محفزات الحياة اليومية: كيف تؤثر الولادة، التوتر، والإرهاق؟
الحياة اليومية مليئة بالضغوط: بكاء الطفل، قلة النوم، ضغط العمل، والخلافات الزوجية. هذه العوامل، بالنسبة لامرأة لديها قابلية للوسواس، قد تكون شرارة لتضخّم السلوكيات الوسواسية. فتبدأ بتفقد الطفل كل دقيقة، أو ترتب المنزل لساعات، أو تعيد التأكد من إغلاق الباب والغاز عشرات المرات. هذه التصرفات ليست “حبًا في الترتيب”، بل محاولات غير واعية لخفض القلق الداخلي
علامات الوسواس القهري في الحياة اليومية
انشغال مفرط بالنظافة، يعيق الحياة اليومية
التحقق المتكرر من الأشياء رغم معرفتها بأنها آمنة
التردد المفرط في اتخاذ قرارات بسيطة
الشعور بأن أي تقصير بسيط سيؤدي إلى كارثة
هذه العلامات قد تمر على أنها “تفاصيل شخصية”، لكن تكرارها وشدّتها وتأثيرها على جودة الحياة هي ما يحدد الفرق بين السلوك العادي والوسواس القهري

٤. كسر الحلقة: كيف نمنع تطور الوسواس القهري وندعمه؟
من القابلية إلى الاضطراب: متى نبدأ بالقلق؟
ليس كل من لديه سلوكيات وسواسية يعاني من اضطراب. لكن عندما تبدأ هذه التصرفات بالتأثير على النوم، العلاقات، أو القدرة على أداء المهام اليومية، يكون من الضروري التدخل. بعض النساء يتعايشن مع الوسواس لسنوات، ويعتقدن أنه جزء من “شخصيتهن”، بينما هو اضطراب يمكن فهمه ومعالجته
الصمت لا يُشفي: كيف نعزز الوعي ونكسر الخوف؟
أكثر ما يؤخر العلاج هو الصمت. تشعر بعض النساء بالخجل من الاعتراف بأن لديهن أفكارًا مزعجة أو سلوكيات متكررة. الخوف من نظرة المجتمع أو من ردود فعل العائلة يمنعهن من طلب المساعدة. هنا يأتي دور التثقيف النفسي وتوفير بيئة آمنة للحوار. معرفة أن الوسواس القهري شائع، وأنه اضطراب يمكن التعامل معه، هو أول خطوة نحو الشفاء
خطوات بسيطة لكسر الحلقة قبل تفاقمها
طلب استشارة نفسية مبكرة، خاصة عند ملاحظة تكرار السلوكيات
تجربة العلاج السلوكي المعرفي (CBT) الذي يُعد من أنجح الأساليب
تنظيم نمط الحياة لتقليل القلق (نوم، غذاء، حركة، تأمل)
بناء شبكة دعم من الأصدقاء أو الأهل
التخلص من الكمالية عبر قبول النقص وتقدير الجهد لا النتائج
الأهم من كل شيء هو أن نعلّم النساء والفتيات أن الأفكار لا تُخيف، وأن الخوف لا يعني الضعف. بل إن الشجاعة الحقيقية هي أن نطلب المساعدة حين نحتاجها